أحمد عبده طرابيك
عندما تتعرض الشعوب لإعتداء من عدو خارجي ، فإنها تشعر بالظلم والاضطهاد من ذلك العدوان الذي قتل أبناءها ، ونهب ثرواتها ، ودمر بيوتها ، وعندما يظل المعتدي حراً طليقاً دون عقاب أو حساب ، ودون أن تقتص منه يد العدالة علي ما اقترفه من جرائم بحق الشعوب المسالمة ، فإن تلك الشعوب التي تعرضت للإعتداء تعيش في مرارة وقسوة وعذاب كل يوم يمر عليها .
مع بداية عام 1992 بلغ عدد المقاتلين الأرمن في ” قره باغ الجبلية ” ستة آلاف مقاتل ضمن قوات الدفاع الذاتي الخاضعة للجنة الدفاع ، وزادت تلك القوات من ترسانتها ومعداتها العسكرية علي حساب القوات السوفيتية التي انسحبت لافساح المجال للأرمن الذين هاجموا المدن والقري ، فاستولوا علي مدينة ” خوجالي ” ليلة 26 فبراير 1992 بعد ارتكاب مذبحة دموية بشعة بحق السكان المدنيين ، وشهدت المدينة أبشع جرائم التطهير العرقي والإبادة بحق الإنسانية ، الأمر الذي اضطر الأرمن إلي فتح ممر لعبور السكان والجرحي إلي خارج المدينة .
ففي مساء 25 ليلة 26 فبراير 1992 تحركت القوات المسلحة الأرمينية بمساعدة قوج المشاه ميكانيكي 366 السوفيتي صوب قرية ” خوجالي ” وتم محاصرتها ، ومع الساعات الأولي من فجر يوم 26 فبراير تم الهجوم علي القرية وتدميرها علي نطاق واسع ، وارتكبت القوات المسلحة الأرمينية مذبحة كانت بمثابة أكبر مأساة في التاريخ المعاصر بعد الحرب العالمية الثانية ، والمعروفة باسم ” مذبحة خوجالي ” .
يسكن الأذربيجانيون مدينة ” خوجالي ” منذ زمن بعيد ، حيث يوجد بها آثار تاريخية قديمة ، وبها آثار حضارة ” خوجالي جداباي ” الأذربيجانية التي تعود إلي القرنين الرابع عشر والثاني عشر قبل الميلاد ، وعُثر بها أيضاً علي آثار تحت الأرض تعود إلي نهاية العصر البرونزي وأوائل العصر الحديدي مثل بعض الصناديق الحجرية والسراديب والمقابر .
لقد ارتكبت القوات المسلحة الأرمينية بالتعاون مع القوات السوفيتية المرابطة بمدينة ” خانكندي ” القريبة ، مذبحة من أبشع الجرائم في حق الإنسانية في العصر الحديث ، ففي الوقت الذي تحدثت فيه المصادر الأذربيجانية عن حصيلة مبدئية للضحايا تُقدر بألف قتيل ، ذكر الإعلان الرسمي للقسم الإعلامي لوزارة الدفاع بجمهورية أذربيجان أن عدد القتلي بلغ سبعمائة قتيل ، وقد تم نزع فروة الرأس من أسري الحرب والقتلي ، ومنهم من فقأت عيناه ، ومن ضمن القتلي 613 شخصا من السكان الأذربيجانيين المدنيين العزل ، بينهم 106 إمرأة ، 63 طفلا ، 70 شيخا مسنا ، وتم القضاء علي ثماني أسر في شكل إبادة تامة ، وبالإضافة إلي ذلك تم اعتقال 1275 شخصاً من بينهم 150 شخصا لا يُعرف مصيرهم حتي الآن . وفي أثناء ذلك الهجوم تُرك حوالي ثلاثة آلاف من سكان القرية البالغ تعدادها سبعة آلاف نسمة ، حيث كانت في ذلك الوقت بها عدد كبير من المصابين والمرضي والشيوخ والنساء والأطفال محاصرين بالقوات الأرمينية لأربعة أشهر .
وقد اختارت القوات الأرمينية مدينة ” خوجالي ” لتكون مسرحاً لتلك المذبحة الدامية باعتبارها تمثل أهمية استراتيجية في قره باغ . فمدينة ” خوجالي ” تقع وسط منطقة ” قره باغ ” الجبلية الأذربيجانية المحتلة حالياً من قبل الأرمن ، ولها موقع استراتيجي مهم في هذه المنطقة ، وتعد مدينة ” خوجالي ” ثاني أكبر المناطق السكنية للأذربيجانيين بعد مدينة ” شوشا ” في ” قره باغ ” الجبلية ، ويعيش بها سبعة آلاف نسمة ، وهي علي بعد عشرة كيلومترات من مدينة ” خانكندي ” في الجنوب الشرقي من أذربيجان عند سلسلة جبال ” قره باغ ” ، كما يوجد بها المطار الوحيد بمنطقة ” قره باغ ” الجبلية بأكملها ، وقد اعترفت أرمينيا بعد ذلك أن الهدف الأساسي من هجومها علي مدينة ” خوجالي ” هو تدميرها ، وإخلاء طريق ” عسكران – خانكندي ” المار بها ، والإستيلاء علي المطار الموجود في حوزة الأذربيجانيين .
لقد كان الهجوم علي مدينة ” خوجالي ” عملا مخططاً ومدبراً تدبيرا محكماً ، حيث حاصر الأرمن المدينة منذ أكتوبر 1991 وذلك مع بداية إعلان استقلال جمهورية أذربيجان عن اتحاد الجمهوريات السوفيتية الاشتراكية ، ففي 30 أكتوبر من ذلك العام ، تم منع الحافلات من الوصول للمدينة ، وأصبحت وسيلة المواصلات الوحيدة التي تربط ” خوجالي ” بأذربيجان هي الطائرات المروحية ” هيلوكوبتر ” ، حيث كانت آخر طائرة وصلت إليها في 28 يناير 1992 .
سوف تظل مذبحة ” خوجالي ” رمزاً للتطهير العرقي القاسي ، حيث نجحت الوحدات العسكرية الأرمينية من خلال تلك العمليات العسكرية البشعة من تحقيق هدفها في نشر الرعب والفزع بين صفوف الأذربيجانيين ، وخاصة بين صفوف السكان المدنيين ، محققة تفوقاً نفسياً ساعدها علي الاستمرار في تحقيق تقدمها الهجومي .
استمر الأرمن في احكام حصارهم لمدينة ” خوجالي ” فبعد أن تم قطع كل وسائل المواصلات البرية بينها وبين أذربيجان ، ولم يبقي سوي الطيران كوسيلة وحيدة لربط المدينة بالوطن الأم ، لكن الأرمن لم يرق لهم ذلك أيضا ، فقاموا باسقاط مروحية فوق مدينة ” شوشا ” راح ضحيتها 41 شخصاً ، وعلي إثر ذلك الحادث الأليم تم وقف تلك الوسيلة الجوية أيضاً ، لتصبح ” خوجالي ” معزولة تماماً عن باقي أجزاء الوطن في أذربيجان .
واعتباراً من الثاني من يناير 1992 ، تم قطع التيار الكهربائي عن المدينة التي ظلت صامدة بفضل إصرار أهلها علي التمسك بوطنهم وبيوتهم وأرضهم ، ومع بداية النصف الثاني من شهر فبراير ، أحكمت القوات المسلحة الأرمينية حصارها علي المدينة ، وعمدت إلي إخلاء ” خوجالي ” من سكانها ، من خلال الغارات ، والهجمات الوحشية عليها ، وذلك بهدف قتل وترويع السكان ، حتي كانت قمة المأساة والوحشية في مساء الخامس والعشرين ليلة السادس والعشرين من فبراير 1992 ، حيث كانت مذبحة ” خوجالي ” .
رغم بشاعة تلك المذبحة وتوثيقها بالأرقام والاحصاءات الرسمية ، ومعرفة المسئولين عنها ، إلا أن أرمينيا تزعم بأن المذبحة دفاع عن النفس ، الأمر الذي يعطي مؤشراً علي عدم الاعتراف بهذه الجريمة البشعة ، بل تعدي الأمر ليصل إلي استعداد الأرمن لتكرار مثل هذه الجريمة طالما أن المتورطين فيها بعيدين عن أيدي العدالة ، ولم ينل المجرمون عقابهم ، وطالما أن المسئولين عنها لم يعترفوا بها ، ولم يبدوا أي ندم علي ما اقترفوه بحق الأذربيجانيين ، بل بحق الإنسانية .
لم يكن ذلك التنكيل والقتل والترويع بسكان مدينة ” خوجالي ” ليتم لولا أن الأرمن كانوا يسعون إلى إخلاء المدينة وإقليم ” قره باغ ” بصفة عامة من السكان الأصليين الأذربيجانيين ، في محاولة لتغيير الواقع الديموغرافي على الأرض ، فقد كانت خوجالي بموقعها الجغرافي الهام وسط الإقليم تمثل عقبة أمام تحقيق الأرمن لأهدافهم ، فمدينة ” خوجالي ” تقع في وسط إقليم منطقة ” قره باغ الجبلية ” الأذربيجانية ، وهي ثاني أهم المدن بعد عاصمة الإقليم ” شوشا ” من حيث عدد السكان ، وتبعد عشرة كيلو مترات فقط عن مدينة ” خانكندي ” في الجنوب الشرقي من أذربيجان عند سلسلة جبال ” قره باغ ” ، كما يوجد بها المطار الوحيد بمنطقة قره باغ الجبلية ، ولذلك كان صمود سكان المدينة يمثل تحديا للأرمن في إخلاء الإقليم من سكانه الأصليين ، والسيطرة على باقي أراضي ” قره باغ الجبلية ” .
لم تستطع وسائل الإعلام العالمية تجاهل ما حدث في ” خوجالي ” ليلة السادس والعشرين من فبراير 1992 ، ورغم أن وسائل الإعلام والاتصال في ذلك الوقت لم تكن علي نفس القدر من التقدم والتطور الذي نراه في هذا الوقت ، إلا أن الصحف والمجلات العالمية ألقت الأضواء علي هذه المذبحة لبشاعتها واعتبارها جريمة ليس في حق شعب أذربيجان ، ولكنها في حق الإنسانية كلها . فقد زار العديد من الصحفيين والمراسلين الأجانب والمحليين مكان الحادث ، وشاهدوا عن قرب ما حدث هناك ، ومنهم ، الصحفي الفرنسي ” جان ايف يونت ” ، الذي قال ” لقد شاهدنا مأساة خوجالي ، ورأينا مئات من جثث الموتي ، من بينهم النساء والشيوخ والأطفال ، والأشخاص الذين كانوا يدافعون عن ” خوجالي ” . لقد أتيحت لنا طائرة مروحية ، وكنا نصور ما تراه أعيننا ونحن في الجو ، وكنا نصور ” خوجالي ” وما حولها ، وفي هذه الأثناء أطلقت الوحدات العسكرية الأرمينية النار علي طائرتنا ، واضطررنا أن نترك التصوير ونعود ، لقد سمعت الكثير عن الحرب ، وقرأت كثيراً عن غدر الفاشيين الألمان ، ولكن الأرمن فاقوا ذلك بقتلهم الأبرياء والأطفال في عمر الخامسة والسادسة ، ولقد رأينا في المستشفيات والمعسكرات وحتي في رياض الأطفال وفصول المدارس عدداً كبيراً من الجرحي .
أما مجلة ” كورالي ايفانمان ” الفرنسية ، فقالت في 25 فبراير 1992 ” الأرمن يقومون بالهجوم علي مدينة ” خوجالي ” ، والعالم كله يشاهد الجثث الممثل بها هنا وهناك ، والأذربيجانيون يخبرون بوجود مئات القتلي ” ، وقالت صحيفة ” صنداي تايمز ” البريطانية في الأول من مارس 1992 ” الجنود الأرمن يقومون بالقضاء علي مئات الأسر ” ، وقالت صحيفة ” فايننشال تايم ” البريطانية في 9 مارس 1992 ” الأرمن يطلقون الرصاص علي مجموعة تفر نحو محافظة ” أغدام ” ، والأذربيجانيون يعدون القتلي بالمئات ” ، وقالت صحيفة ” التايمز ” البريطانية في 4 مارس 1992 ” معظم القتلي ممثل بجثثهم ، وطقلة صغيرة لم يبقي إلا رأسها ” ، وقالت صحيفة ” ازفستيا ” الروسية في 4 مارس 1992 ” الكاميرات تنقل لنا صور أطفال قطعت أذنهم ، وامرأة لم يبق سوي نصف وجهها ، وسلخ فروة راس الرجال ، كما ذكرت نفس الصحيفة في 13 مارس 1992 علي لسان الرائد ” لييوميد كرافتس ” قوله ” لقد شاهدت بنفسي ما يقرب من مائة جثة عند التل ، وهناك طفل بدون رأس ، وتبدو في جميع الأرجاء جثث النساء والأطفال والشيوخ المقتولين غدراً ” ، وذكرت صحيفة ” فايننشال تايم ” البريطانية في 24 مارس 1992 تصريحاً للجنرال ” بولياكون ” ، ” أن 103 جندي أرميني من اللواء 366 مشاة سوف يظل باقياً في ” قره باغ ” الجبلية ” ، وذكرت مجلة ” فالير اكتويل ” الفرنسية في 14 مارس 1992 ” المجموعة المسلحة الأرمينية في هذه المنطقة ذات الحكم الذاتي تمتلك معدات حديثة ، بما فيها المروحيات ، بجانب القادمين من الشرق الأوسط ، وهناك معسكرات حربية ومخازن سلاح في سورية ولبنان تابعة للتنظيم الإرهابي الأرميني ” أصالا ” ، والأرمن يقضون علي الأذربيجانيين من خلال الإبادات الجماعية التي قاموا بها في أكثر من مائة قرية مسلمة ” ، أما الصحفي ” ر . باتريك ” بشبكة ” فادرين نيوز ” التليفزيونية البريطانية ، والذي كان موجوداً بموقع الحادث فقال ” لا يمكن تبرئة العمليات الوحشية في ” خوجالي ” لأي سبب من الأسباب أمام أعين المجتمع الدولي ” ، كما جاء في تقرير مركز الدفاع القانوني في ” موريال ” بكندا ” إن المجموعات المسلحة الأرمينية ، وأفراد اللواء 366 مشاة المشاركين في إطلاق الرصاص علي المناطق السكنية الأذربيجانية هم الجناة الأساسيون للمذبحة الوحشية التي ارتكبت في ” خوجالي ” .
بالإضافة لما وصفه شهود عيان من الصحفيين والإعلاميين والمراقبين لما رأوه من فظائع لمذبحة ” خوجالي ” ، فقد وصفت منظمة حقوق الإنسان الدولية ” هيومان رايتس ووتش ” مذبحة ” خوجالي ” بأنها أكبر مذبحة في تلك الأزمة ، ولكن حسب القانون الدولي ماذا يمكن توصيف مذبحة ” خوجالي ” ؟ ، وللإجابة علي ذلك السؤال لابد من الوقوف علي تعريف منظمة الأمم المتحدة للإبادة الجماعية .
في التاسع من ديسمبر 1948 أعلنت منظمة الأمم المتحدة أن الإبادة الجماعية لابد أن تكون محرمة دولياً ، ولذلك ليس غريباً أن تتبني بعض الدول عقوبات صارمة بحق من قام بتنفيذ أو شارك أو حرض علي ارتكاب إبادة جماعية ، فألمانيا علي سبيل المثال يعد فيها فعل الإبادة الجماعية عملاً يعاقب عليه القانون بالسجن مدي الحياة ، وذلك حسب المادة 220 من قانون العقوبات الألماني ، ومنذ عام 2002 لا يقر القانون الألماني حداً محدداً للعقوبة عن جرئم الإبادة الجماعية .
كما تُعرف جرائم الحرب بأنها كل الجرائم التي يرتكبها الأفراد أو المنظمات ضد مواثيق الحرب ، وتتضمن جرائم الحرب علي سبيل المثال إساءة معاملة أسري الحرب ، واختطاف المدنيين ، كما تعرف معاهدة لندن الموقعة في 8 أغسطس 1945 بشكل تفصيلي جرائم الحرب الخطرة ، حيث ترتبط جرائم الحرب ارتباطاً وثيقاً بالجرائم ضد الإنسانية ، وعدم المساس بكرامة المدنيين أو المحاربين المستسلمين ، والنشاطات الإجرامية تجاه حياة الإنسان أو الممتلكات أو الكرامة الإنسانية ، ولذلك فإن الإبادة الجماعية هي إحدي الجرائم الدولية التي تخرق القواعد القانونية للتعايش الدولي ، وينطبق ذلك علي جرائم الحرب ، وعلي الجرائم ضد الإنسانية وفقاً للقانون الدولي .
إن مئات القتلي الأذربيجانيين ، بما فيهم العدد الكبير من النساء والأطفال ، قد مثلوا صدمة لعامة الناس في أذربيجان ، وما زاد من آلام وجراح شعب أذربيجان خلال تلك المذبحة الوحشية أن قيادة أذربيجان في ذلك الوقت برئاسة ” اياز مطلبوف ” لم تكن علي قدر المسئولية ، ولم تكن في صفوف الشعب الجريح ، ولذلك نزع الشعب الثقة من قيادته ، وقدم ” مطلبوف ” استقالته في مارس 1992 في ظروف صعبة وحساسة تمر بها البلاد ، ورغم انتخاب رئيس جديد ” أبو الفضل إلجي بك ” خلفاً له ، إلا أنه لم يكن علي قدر المسئولية كسلفه المستقيل ، وقد أحدث الفراغ السياسي الناشئ ضعفاً عاماً في قدرة البلاد العسكرية ، فاستغلت القوات الأرمينية والسوفيتية ذلك الضعف العسكري والفراغ السياسي الحاصل في أذربيجان واحتلت مدينة ” شوشا ” في مايو 1992 ، وبها اكتمل للأرمن احتلال أراضي ” قره باغ الجبلية ” .
تحاول أرمينيا التمويه علي الجرائم التي ارتكبتها بحق السكان الأذربيجانيين وفي مقدمتها مذبحة ” خوجالي ” وذلك من خلال حملات الدعاية المضللة التي تروج لها ، في محاولة للإفلات من العقاب عن الجرائم البشعة التي ارتكبتها أرمينيا بحق جمهورية أذربيجان وشعبها ، باعتبار أن تقديم مرتكبي الجرائم للعدالة هو أساس تحقيق السلام والاستقرار في المنطقة وتحقيق المصالحة الشاملة بين أرمينيا وأذربيجان .
كاتب وباحث في الشئون الآسيوية
http://www.bizturkmeniz.com/ar/index.php?page=article&id=29711